يولد الطفل بريئًا، تلقائي التصرف، سليم الطوية، وفي سنوات التنشئة الأولى يتكون لهذا الطفل ضمير هو في الواقع رافد من ضمير والديه، فمن خلالهما يعرف قاعدة الثواب والعقاب، إذا أحسن – من وجهة نظر والديه – يثاب، وإذا أساء – من وجهة نظر والديه أيضًا – كان العقاب.
والطفل في جميع الأحوال يعجز إدراكه المحدود عن استيعاب مفاهيم الوطن أو الخير والشر أو العقيدة الدينية، إلى غير ذلك مما ينطوي عليه الضمير الراشد. وهكذا يكون ضمير الطفل مرآة لوالديه، حتى إذا بلغ وكبر بدأ الضمير في التكون، ليتسق ضميره مع قيم المجتمع وتقاليده وأعرافه الاجتماعية وقبل ذلك المعتقدات الدينية.
ولا نجد معنى للضمير إلا هذا التعبير القرآني العظيم (النفس اللوامة)،أي الرقيب الخاص داخل كل إنسان أو "الأنا الأعلى" التي تحاسب الإنسان في داخله حسابًا عسيرًا عما بدر منه من ممارسات وسلوكيات يأباها الضمير.
الدكتور أحمد عكاشة رئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب يؤكد في دراسته المهمة " ثقوب في الضمير" أن الحياة قد تعقدت ولم تعد هي تلك الحياة البسيطة التي كنا نحياها في الماضي، والتي كانت تحكمها أعراف تنطوي على قيم جليلة كالتواد والتراحم والحرص على احترام إنسانية الآخرين، حين كان المجتمع يطرح الفردية والأنانية الذاتية.
وحين لم يكن شعار "أنا ومن بعدي الطوفان" قد ارتفع بعد، وحين لم نكن نعرف هذا التسيب العارم الذي اجتاح حياتنا المعاصرة.
ويرى أن مجتمعنا الآن باتت تعوزه القدوة، فالأفراد يعرفون ويسمعون الكثير عن انحرافات تؤرق ضمائرهم، بل هم يرونها تقع في أوساط ومستويات كان الأولى أن تتسم بالنزاهة، كما يشهدون أن العقاب قد يلحق بالبعض دون البعض الآخر، وتجد من ليس عنده يؤخذ منه، ومن عنده يضاعف له العطاء!!
البعض يأمر دومًا بالمعروف وينسى نفسه! الخطب في الشعائر الدينية لا تقدم للناس تفسيرًا مقنعًا لما أصاب المجتمع من عطب! والحلول إما شعارات غوغائية أو غير واقعية أو هي لا حلول على الإطلاق، أو هي جديرة ببثها في مجتمع من الملائكة، ثم إذا الناس يداهمون بما يزيدهم حيرة واضطرابا لما تحمله بعض الوقائع من مفاجآت!!
ويضيف: " نذكر جميعًا – خاصة أصحاب الأعمار المتقدمة – أن الدهشة كانت تعترينا إذا سمعنا من يحكي في استنكار أنه توجه لمرفق حكومي لقضاء مصلحة هي من حقه، فإذا الموظف – صغيرًا كان أو كبيرًا – يفاجئه بطلب رشوة – مادية أو عينية – حتى يقضي له مصلحته، كذلك كان من النادر أن يستجيب صاحب الحاجة لمثل هذا الابتزاز فضلًا عن إصراره على قضاء مصلحته دون أي مقابل، وقد يحذر هذا الموظف علنًا من مغبة هذا المسلك المشين.
والآن يأتي السياق مخالفًا تمامً لما كان عليه في الماضي، فصاحب الحاجة – أي حاجة - يحكي بدهشة عن أنه ذهب لقضاء مصلحة ما، وأنه قد أجيب إلى ما أراد دون أن يطلب الموظف مقابلًا عينيًا أو ماديًا، وقد يواصل صاحب الحكاية حكايته فيصرح بأنه كان على استعداد لدفع أي شيء يطلب منه، فهو حيث قصد هذه المصلحة الحكومية قد وقر في نفسه أن "الدفع" أمر معتاد، وكأنه قد أصبح القاعدة والقاعدة قد أصبحت الاستثناء!!
ويعلق رئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب على المشهدين فيقول: " دهشة المستمعين إلى صاحب الرواية الأولى كانت معبرة عن صلابة هذا الجدار الفولاذي أو الضمير الذي يأبى ما يحدث، ودهشتهم في الرواية الثانية للرواية تكشف عن أن هذا الجدار، أعني الضمير، قد تم اختراقه إلى الدرجة التي سمحت بأن تكون الرشوة هي القاعدة فلا شيء بدون مقابل".
وأشار د. عكاشة إلى أن البعض أصبح يعمل فوق طاقته حتى اختفت من حياته جوانب كثيرة ضرورية لنموه ونمو أسرته نفسيًا وصحيا وروحيًا، فهمومه هي أن يوفر المال، والبعض الآخر يرى أن تنويع مصادر دخله لا يجوز أن يخضع لمجرد التفكير في مشروعية هذه المصادر من عدمها، بل ويبرر ما يفعل بدعوى أن الكل يقرع الدف نفسه، وأن المهم أن يكون معك، لا ما يحفظ عليك حياة كريمة فقط، بل ما يكون فائضًا زائدًا على الحاجة.
ويرى أن الوالد الذي يعتبر طفله نابهًا أو فهلويًا لأنه نجح في الغش من زميله على مقاعد الدرس لا يدري أنه بمباركته هذه الفعلة إنما يعد للوطن رجلًا فاسد الخلق عديم الضمير!!
وينبه د. عكاشة إلى أن التحايل على تبرير فساد مجتمعاتنا باستحضار الأجنبي الذي يقف وراء ذلك، ليس على شيء.. ذلك أن "الأجنبي لو أراد لنا هذه الشرور المستطيرة لما استطاع دون إعانة منا.. وأظن أن ممارستنا تقدم له هذه الإعانة بأحسن ما تكون الإعانة ومع ذلك فإنني أشك كثيرًا في أن الأجانب مشغولون بنا إلى هذا الحد، فلو كنا شاغلهم الوحيد لما تفرغوا لما يحققون كل يوم من تقدم وانجاز نكتفي نحن أمامه بالذهول والانبهار!!".
ويخلص إلى أن الأسرة وباقي الوسائط التربوية في المجتمع ـ دينية وتعليمية وإعلامية وثقافية ـ يجب أن تتكاتف للعمل على إحياء الضمير في نفوس الأفراد.
يقول الدكتور مصطفى محمود (رحمه الله): "الضمير نور وضعه الله في الفطرة ومؤشر ودليل وبوصلة تهدينا إلى الحقائق وكل ما نحن مطالبون به أن نجلو أنفسنا من غواشي المادة ومن كثافة الشهوات فنبصر ونرى ونعرف ونميز".
ويبقى الضمير حقيقة ثابتة، فقتل البريء لن يصبح يومًا ما فضيلة وكذا السرقة والكذب وإيذاء الآخرين والفحشاء والفجور والبذاءة والغلظة والقسوة والنفاق والخيانة كل هذه نقائص خلقية، وسوف تظل هكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وكذلك سوف تظل المحبة والرحمة والصدق والحلم والعفو والإحسان فضائل. . ولن تتحول إلى جرائم إلا إذا فسدت الأرض وساد الجنون.
الكاتب: عبد الرحمن هاشم
المصدر: موقع المستشار